بسم الله الرحمن الرحيم
فاتبعوني يحببكم الله
الدكتور محمود أحمد الزين
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وفقهاً في الدين يارب العالمين اللهم افتح بخير واختم بخير واجعل عاقبة أمرنا إلى خير أما بعد :
فإن الله تبارك وتعالى قال في كتابه الكريم : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، لعل الإنسان لو نظر في آيات القرآن الكريم لم يجد آية تصرح بما يعتقده كل مسلم من أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو حبيب الله تعالى ولذلك تشكك بعض المتشككين وقال : إن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه حبيب الله ليس بثابت
هؤلاء قوم توقفوا عند صور معينة وكلمات خاصة اطلعوا عليها ولم يتعمقوا في فهما فصدرت عنهم هذه الأقوال ، الآية الكريمة التي ذكرت الآن تدل دلالة أقوى من الصريحة على أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله بل على أنه أحب أحباب الله إليه صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الآية تبين لنا أن من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبه الله فهل يعقل أن يحب الله من يتبعه ولايحب المتبوع صلى الله عليه وسلم ، إن محبة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تتجلى في هذه الآية تجلياً عظيماً هو كما قلت فوق الصريح لأنها تصرح أنه صلى الله عليه وسلم اتباعه باب لدخول محبة الله للعبد ، فإذا كان اتباعه باباً يدخل العبد إلى حب الله فأين يكون هو صلى الله عليه وسلم ؟!
هذه الآية : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) هي على صلة وثيقة تامة عظيمة بقول الله عزوجل : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فمن جملة رحمة الله للعالمين برسول الله صلى الله عليه وسلم أن من اتبعه كان حبيباً لله تعالى ، وهذا الحب لو تفحصناه سنجد فيه أموراً عظيمة ، رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون من باب اتباعه رحمة لهذا التابع ولكنها ليست رحمة لهذا التابع وحده لأن هذا التابع إذا عامل الخلق بهذه الرحمة فسيكون هو حبيباً عند الله وسيكون من اتبعه واستفاد من هذا الاتباع حبيباً إلى الله وهكذا تتسلسل محبة الله تعالى بين الخلائق عن طريق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
فهل سمعت بما يسمونه اليوم الانفجار الذري المتسلسل ههنا انفجار الحب المتسلسل ينطلق من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى قلوب العالمين فيجعلها قلوباً تفيض بالرحمة وتفيض بالحب إلى أن تملأ الدنيا كلها
النبي صلى الله عليه وسلم يرحم هذا الإنسان وهذا الإنسان يكون بدوره محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيرحم الناس ثم هؤلاء الناس تأخذهم الرحمة فيعاملون الناس بها وهكذا تتسلسل الرحمة ويتسلسل معها الحب بغير عد ولاحصر
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينجذب الناس إليها برحمته عليه الصلاة والسلام وبأخلاقه وبكمالاته فكل أخلاقه وكمالاته هي باب من أبواب حب الخلق له صلى الله عليه وسلم وباب من أبواب حب الله تعالى لهؤلاء الخلق
هذا ربما كان كلاماً نظرياً ولكن الرحمة المحمدية التي ملأت قلوب الخلق بالحب رحمة عملية ماكانت يوماً من الأيام نظرية فقط ، رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجيئها حيث نظرت في حياته عليه الصلاة والسلام حتى في مواطن الحرب التي هي إراقة الدماء وقطع الأعناق هذه الحرب كانت مظهراً من مظاهر رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف كانت رحمة ؟!
أكبر جيش أعدته العرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم حنين ولم تبلغ الجيوش العربية التي حاربت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من هذا العدد ، قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وكسرهم قتل منهم الكثير وأسر منهم الكثير ثم ماذا كانت النتيجة ؟! تبين لهم برحمته أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أول الأمر أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن كسرهم كسر صلفهم وجبروتهم وتحديهم هذا الكسر إزالة لأمراض النفوس التي كادت تحول بينهم وبين الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد ذلك لما كسرهم في الحرب أخذ أموالهم وأبناءهم ونساءهم أخذهم أسارى ، أول مافعله من أبواب الرحمة أنه لم يوزع من الغنائم شيئاً ولامن الإماء والعبيد شيئاً انتظرهم أن يرجعوا ويتوبوا أربعة عشر يوماً ، ملوك الدنيا لاينتظرون هذا الانتظار الغنيمة صارت في أيديهم يتناهبونها نهباً ، أما ملك القلوب عليه الصلاة والسلام فقد انتظرهم أربعة عشر يوماً ثم لما جاؤوه قال إني قد استأنيت بكم أربعة عشر يوماً فاختاروا إما أن أرد إليكم الأموال أو الأبناء والنساء فاختاروا أن يرد إليهم أبناءهم ونساءهم ، وهذا لايفعله ملك ، الأمر الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أعلم للناس أن يردوا إليهم قال : أيها الناس ردوا إليهم نساءهم وأموالهم فمن تمسك بحقه من ذلك ( انظر إلى الاستقامة على الحق تمام الاستقامة ) من تمسك بحقه ( لأنه بعد أن صار في يده أصبح حقه ) فمن تمسك بحقه في ذلك فله علينا أن نعوضه من أول مايرزقنا الله ، وهذا باب آخر من أبواب الرحمة ثم بهذا العفو كله دخلوا كلهم في دين الله أفواجاً ، هنا الرحمة الأعظم اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب التي هي إراقة الدماء وضرب الأعناق اتخذها وسيلة لهدايتهم فرجعوا كلهم إلى الله تعالى
قلت دائماً تجد أن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي جذبت القلوب إليه ، إذن : باب الرحمة هو الذي يجذب قلوب الخلق ، وباب الرحمة كما قلنا واسع ، ثبت أن أحد أحبار اليهود وكان يسمى زيد بن سعنة أو زيد سعية (اختلفوا في ضبطه ) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبة كان عنده جماعة ممن أسلم حديثاً فقالوا يارسول الله إنا دعونا قومنا إلى الإسلام وأجابونا وجاءتنا هذه السنة سنة عجفاء ( محل ) فنخشى أن يظنوا أن ذلك بسبب دخولهم في الإسلام فأعنا حتى نقدم لهم شيئاً يصرفهم عن أن يعتقدوا مثل هذا ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء قال : ماعندي ماأعطيكم ، زيد بن سعنة كان موجوداً اغتنم الفرصة قال يا محمد إن شئت أقرضتك ماتريد ؟! قال نعم فاقترض منه النبي صلى الله عليه وسلم مقداراً كبيراً من التمر يقدمه لعشيرة وليس لفرد ولااثنين ولاثلاثة ، واتعد معه على أجل ، يقول زيد : فانتظرت حتى إذا دنا الأجل ( أي ماحال ) فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا محمد : أعطني حقي قال : إن الأجل لم يحن بعد ! فأخذ بثوب النبي صلى الله عليه وسلم وجذبه جذباً شديداً وقال : يا محمد أعطني حقي فإنكم يابني هاشم ما علمت لقوم مطل فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لسيدنا بلال : أعطه حقه ن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه كان شديد الغيرة شديد المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يارسول الله دعني أضرب عنق هذا الكافر فقد آذى الله ورسوله قال صلى الله عليه وسلم : ياعمر كنت أنا وهو أحوج إلى غير هذا ، كنت أحوج إلى ان تأمرني بحسن الأداء وكان أحوج إلى أن تأمره بحسن الطلب فقال زيد بن سعنة : أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، والله يارسول الله مافعلت الذي فعلته إلا لأرى فيك علامة من علامات النبوة ، نظرت في التوراة فعرفت علاماتك ثم نظرت في شانك فرأيت كل العلامات التي عرفتها إلا علامة واحدة وهي أن النبي يسبق حلمه غضبه فأحببت أن أرى ذلك فقد رأيت : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله
الخلق المحمدي جذبه إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم جعله ممن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وباتباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح محبوباً إلى الله تعالى
قلت إنك حيث نظرت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوف تجد هذا وستجده أيضاً في أولئك الذين اتبعوه في أخلاقه صلى الله عليه وسلم فتخلقوا بها وأعطوها حقها
هذا سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصته المشهورة حينما احتكم مع يهودي إلى شريح القاضي ، وقف أمير المؤمنين في المحكمة بجانب اليهودي ( هذه عدالة دين الله وليست العدالة التي يتحدثون عنها ويتبجحون بها ) يقف أمير المؤمنين أمام القاضي موقفاً واحداً ثم تجري المحاكمة ، الخلاق كان على درع ، كان سيدنا علي قد أضاعها في معركة من المعارك ثم وجدت عند هذا اليهودي فادعى عليه عند القاضي فقال : شهودَك ياأمير المؤمنين ؟! قال : ماعندي إلا الحسن والحسين قال ياأمير المؤمنين : إن شهادة الولد لأبيه لاتمضى قال : ماعندي قال : خذ درعك يايهودي فهي لك ، فأخذ الدرع ، قال شريح لسيدنا علي رضي الله عنه : أعجبك حكمي ياأمير المؤمنين ؟! قال : لا قال : ولمَ ؟! قال : ماأنصفت قال : وكيف ذاك ؟! قال : إنك كنت إذا كلمتني قلت ياأمير المؤمنين وإذا كلمته قلت يايهودي أو يافلان ألا عدلت بيننا فناديتني باسمي وناديته باسمه ! فقال اليهودي : أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله
هذه أخلاق الرحمة التي تجذب القلوب إلى محبة الراحم وإلى الدخول في هذا الدين دين الرحمة التي أرسلها الله تبارك وتعالى ، هي كما قلت رحمة متسلسلة تبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تستمر ولاتنتهي إلى أبد الآبدين لأن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمرون قائمون على الحق لايضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على هذا .
أقوى من هذا مظهراً ماحصل في زمن سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه حينما شكى إليه أهل سمرقند أن القائد المسلم الذي افتتح بلدهم غدر بهم وأخذ البلد فأرسل سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى قاضي سمرقند ( قالوا كانت رسالة صغيرة وكان سيدنا عمر يضن بمال الأمة أن يضيع فيكتب على الورقة ثم يقص الورقة فتكون بحجم المكتوب ) اجمع بينهم وبين من حضر الفتح واستشهد من الفريقين فإن تبين لك أنهم غدر بهم فأخرج المسلمين ورد إليهم مدينتهم ثم ادعهم إلى الإسلام من جديد وأعطهم المهلة ثم إذا شئت أن تحاربهم بعد فافعل ، فجاء الكتاب إلى قاضي سمرقند فدعا القائد فلما جلس إليه مجلساً في مقابله زعماء البلد فأدلوا بدعواهم قال للقائد : أصحيح مايقولون ؟! قال : أصلح الله القاضي هذا شيء كان في الحرب ثم افتتح المسلمون البلد وعمروها وسكنوها وانتشروا فيها ودعوا فيها إلى الله قال : دع عنك هذا هل غدرت بهم ؟ قال : نعم قال : يخرج المسلمون من هذا البلد ويبعدون عنه مسافة تعطي الأمان لأهله ثم يدعونهم إلى الإسلام ويمهلونهم ثلاثة أيام ثم إذا شاؤوا أن يقاتلوهم بعد فعلوا
هذه الحادثة أشبه مايكون بالخيالات والأساطير ولكنها واقع سجله التاريخ من رحمة هذه الرسالة المحمدية ومن أخلاق هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم التي ورثها عنه سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بينت للناس مافي هذا الدين من العدالة حتى في معاملة العدو فخرج المسلمون وابتعدوا عن المدينة ثم أرسلوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وحين انتهت المدة رأى المسلمون لاالجيش السمرقندي الذي يخرج لقتالهم ولكن رأوا أهل البلد يفتحون الأبواب ويعلنون أشهد أنه لاإله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله
بهذا الحب فتحوا القلوب ، السيوف كانت أداة لكسر سطوة الطغيان الذي يمنع الناس أن يروا عظمة هذا الدين أن يروا عظمة مبادئه
أن يروا عظمة أخلاقه أن يروا عظمة نبيه صلى الله عليه وسلم أما الدخول في الدين فكان على القاعدة التي وضعها الله عز وجل في كتابه الكريم : لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها
والذي يؤكد لك هذا أن تقارن بين مايفعله أعداء الإسلام إذا دخلوا بلداً إسلامياً وبين مافعله المسلمون في البلاد التي افتتحوها عبر التاريخ كله ، الأندلس حينما أخذها الكفار لم تمض مائة سنة حتى نسخ منها كل شيء له صلة بالإسلام ، والمسلمون إما مقتول وإما محروق وإما متنصر إكراهاً وإما مطرود من البلد ، وأولادهم أخذوا منهم لتربيهم الكنيسة على النصرانية ، وصار من تبقى ممن كتم إسلامه تحت ستار الظلام وتحت ستار البيوت يلقنون أبناءهم شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، تدري كم استمر هذا ؟! بحسب الظاهر مااستمر إلا مائة عام فإذا كل شيء قد انتهى ولكن القلوب المتعلقة بالإسلام تأبى أن تنصاع لسطوة الكفر وإن كان كثيرون قد ذهبوا ، استمر هذا حتى رأيت بعيني واحداً من هذه السلالة المتخفية يقول : إن جدته قالت له في أنفاسها الأخيرة : يابني إن النصرانية ليسن ديننا فابحث عن دينك ، ماتجرأت أن تقول له نحن مسلمون ، وظل الرجل يبحث حتى عرف أن أسرته كان تدين بالإسلام فأعلن إسلامه بعد زوال هذا الكابوس الذي استمر مئات السنين .
كما قلت : الأخلاق الإسلامية التي أبدت عظمة رسالة الرحمة الإلهية هي كانت مفتاح القلوب التي دخلت في الإسلام ، وأما السيف فما كان إلا حارساً ماكان إلا كاسراً لسطوة الطغاة الذين يمنعون شعوبهم عن أن تسمع قولة الحق ، والذي يدلك على هذا أن الأقطار كانت تدين بغير دين الإسلام لايزال كثير من أهلها إلى هذا اليوم متمسكين بدينهم دون أن يعدوَ عليهم أحد أو يجبرهم أحد على الدخول في دين الإسلام ، بل أنت تشاهد في مصر التي فتحت في العشرين سنة الأولى من الهجرة النبوية هذه مصر لاتزال تقود أقباط العالم من قلب العالم الإسلامي إلى هذه الساعة ، لو كان المسلمون قد أدخلوا الناس بالإكراه في دينهم كما فعل النصارى حينما سيطروا على بلاد المسلمين لكان الأمر يختلف عن هذا كل الاختلاف ، لذلك تجدهم الآن يشككون ولايصدقهم إلا الجاهلون الذين ماعرفوا دين الإسلام ولارسالة الرحمة الإلهية في القرآن ولارسالة الأخلاق المحمدية في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الأعمال التي قام بها المسلمون في البلاد التي افتتحوها أعمال العدالة أعمال الإنسانية أعمال الأخلاق العظيمة التي ملأت الدنيا خيراً .
انطلقنا من أن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي صورة عملية للرسالة الإلهية ( القرآن الكريم ) كما قالت السيدة عائشة : كان خلقه القرآن ، هذه الرسالة كانت في القرآن الكريم مبادئ مكتوبة فإذا هي في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته أعمالاً ومبادئاً وأخلاقاً مشهودة يعيش الناس في ظلالها أطيب الحياة وأسلم الحياة وأحسن الحياة
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين