هناك سؤال يَجب أن يدور في قلب المسلم، يجب أن يدور في قلبه وخاطره وهو يمضي مع الحياة بمختلف أحداثها من أفراحٍ وأتراح، ومن عسر ويُسر، ومن غنى وفقر، ومن صحَّة ومرض، ومن قوَّة وضعف.
لماذا خلقنا الله؟
سؤال مُهِم يَجب أن يعرفَ المسلمُ إجابته المهمة، هذا السؤالُ نفسه يثير قضية مهمة، قضية يتميز بها المؤمن الصَّادق من الكافر، فالمؤمن يجب أن يعرف مهمته في الحياة، وبدايته ونهايته، لا يحل للمؤمن أن يعيشَ كالأنعام، يأكل ويشرب ويلهو، وينام ويستيقظ، وتظلُّ الأيام تدور به على هذه الوتيرة، يلهث وراء الدنيا لا يشبع منها، يَجري ويلهث ولا يُفكِّر، لا في واقعه ولا بدايته، إنَّه يعيش تائهًا أو في خدر، وقد يُصلِّي ويصوم ويؤدي الشعائر كلها أو بعضها، ولكن تفكيره في غير دُنياه متعطل، والأسئلة التي تدور في ذهنه تنحصر في دُنياه؛ كيف يزيد ماله؟ كيف يستثمر؟ كيف ينال منصبًا أعلى؟ كيف يُنافس هذا وذاك على الدنيا؟ وأمور أخرى كثيرة مثل هذا.
ولكنه لا يفكِّر كيف يضع ماله في طاعة الله، ولا جهده وعلمه وسعيه؟ أخذتْه الدنيا وشدَّته إلى زينتها، وقد يكون هذا كله تحت شعار الإسلام، تحت غطاء أداء الشعائر وحْدَها، ثم الانغماس في طلب الدنيا، واستمع إلى قوله - سبحانه تعالى -:
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
وأين نجد الإجابة؟ إننا نجد الإجابة أولاً في فطرتنا التي فطرنا الله عليها، ما دامت الفطرة سليمة لم تفسدْ ولم تتشوهْ، وكذلك يجد المسلم الإجابةَ في منهاج الله - قرآنًا وسنة ولغةً عربية - يجد المسلم الإجابةَ وهو يستجيب لأمر الله ورسوله بتدبُّر منهاج الله.
ومَن هنا، يُدرك المسلم أنَّ الله خلقنا لنُؤدِّي مُهِمَّةً في الحياة الدنيا، وأنَّ الله لم يَخلقنا عبثًا، ولن يتركنا سُدًى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 115 - 118].
فالله - سبحانه وتعالى - لَم يَخلقْنا عبثًا، وكذلك لم يتركنا سُدًى:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [القيامة: 36 - 40].
تدبَّر هذه الآيات الكريمة أيها المسلم، قِفْ عندها طويلاً، وتأمَّل معانيها وظلالَها، ما دمت تؤمن بالله وتؤمن بأن هذه الآيات الكريمة من عند الله.
سيكون أول نتائج هذا التأمل والتدبر أن يدرك المسلمُ أن الله لم يخلقه عبثًا، وإنَّما خلقه ليؤدي مهمة في الحياة الدُّنيا، على طريق مسيرته إلى الدار الآخرة؛ حيث يرجع الخلق كلهم إلى ربِّهم.
إنَّ الله - سبحانه وتعالى - الذي تولَّى رعايةَ الإنسان منذ أنْ كان نطفةً إلى أنْ سوَّاه رجلاً، يتولاه أيضًا ويرعاه في جميع مراحل حياته؛ في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة، وقبل أن يكون نطفة، حين لم يكن شيئًا مذكورًا في عالم الغيب.
وهنا يثور السؤال الآخر: إذا كان الله - سبحانه وتعالى - قد خلقنا لمهمة نُؤدِّيها في الحياة الدُّنيا على طريق دربنا إلى الآخرة، فما هذه المهمة التي خلقنا الله لها؟
إنَّ منهاج الله هو الذي يبِّين لنا هذه المهمة، لقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - لنا هذه المهمة بصُورتها العامة في أربعة مُصطلحات قرآنية ربانية، نذكرها فيما يلي، وكل مُصطلح وَحْده يُعَرِّف المهمة نفسها، والمصطلحات الأربعة مجتمعة تعرض المهمة من جميع جوانبها، ثم يُفصِّل - سبحانه وتعالى - المهمة كلها التفصيلَ الأوفى، حتى لا يبقى لأحدٍ عذر في عدم الوفاء بها:
1- العبادة:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].